الأحد، 17 يناير 2010

المراكب... دراسة حالة في السودان المراكب... دراسة حالة في السودان

بسم الله الرحمن الرحيم

المراكب... دراسة حالة في السودان

::::::
لاتعليق::::::::::::::::

هذا المقال تم نشره باللغة الانجليزية بمجلة وازا التي تصدر عن مركز
تسجيل وتوثيق الحياة السودانية بوزارة الثقافة العدد «13» 2004م
ص 112-112 مأخوذ كجزئية من دراسة الدكتور/ يوسف حسن مدني
بعنوان بناء المراكب في السودان:
الثقافة المادية ودورها في فهم المورفورلوجيا «التركيبة» الثقافية
السودانية، وهي أطروحة دكتوراة من جامعة ليدز، 1986،
ص 28-83 . وتعد دراسة رائدة في مجال الدراسات الفولكلورية بصورة
عامة وفي مجال الثقافة المادية بصفة خاصة وذلك لأنها ساهمت في
تطوير مناهج دراسة الثقافة المادية في السودان وتعد المرجح
الاساسي لكل باحث في مجال الصناعات والحرف التقليدية، اذ لابد
له من الرجوع اليها والاستفادة من المناهج التي استخدمت فيها.

من خلال هذه الدراسة نجد ان الدكتور /يوسف حسن مدني
خرج لنا بالعديد من الحقائق على سبيل المثال:

1- محاولة زرع أي جسم ثقافي وافد في سجل ثقافي آخر
وبصورة فجائية يختفي بإختفاء المسبب.

2- إستلاف أي نمط ثقافي من منطقة إلى منطقة أخرى لابد
أن يتحور لكي يتواءم مع الظروف البيئية الجديدة التي اليها.

3- عمليات التغير الثقافي عمليات متدرجة وبطيئة.

الثقافة المادية الشعبية والبيئة

المراكب في السودان : دراسة حالة «1-2»

**************
اولاً: علينا أن نوضح أن الثقافة بصفة عامة والثقافة المادية على وجه
الخصوص مرتبطة بالبيئة، أي يمكن القول إن الانتاج الثقافي لأية
مجموعة بشرية يرتبط بصورة مباشرة بالظروف البيئية المحيطة به،
وقد عرف تايلور الثقافة بأنها:

«ذلك الكل المركب الذي يتضمن المعرفة، المعتقد، الفن، الأخلاق،
القانون، العرف، وأي مقدرات وعادات أخرى يحتاج إليها الإنسان
بصفته عضواً في المجتمع».

ثانياً: نحن في حاجة إلى تعريف الثقافة المادية:
إن دراسة الثقافة المادية تشير إلى تلك العوامل التي تحكم انتاج
واستخدام الادوات، ثم إلى تعريف البيئة وهمنا اعتقد بأننا نحتاج إلى
توسعة مفهوم البيئة وفي الاغلب تعتبر البيئة بانها البيئة الطبيعية،
وتم توسيع المفهوم في هذا المقال فان استعمال البيئة يعني بجانب
البيئات الطبيعية السياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية
والتاريخية، أو البيئات التي تحكم في الواقع انتاج الثقافة سواء كانت
مادية أو غير مادية.

ايضاً يمكن تعريف الأدوات المادية لأنشطة الإنسان بأنها التعبير
المرئي أو التبديات العيانية والظاهرة لتاريخ طويل للتواصل الثقافي
في مكان محدود. وهي تعكس الاتصالات الثقافية بين المجموعات
البشرية كما تعكس ايضا مستوى التقنية والحاجات الاقتصادية
والمعتقدات والممارسات. من جانب آخر هي مستودعات ثقافية
لكشف وفهم التركيبة الثقافية، كل هذا يتم في اطار البيئة والتراكم
التاريخي، إن النشاط الذي اتخذناه كمثال هو بناء المراكب في اقليم
النيل الأوسط وتفيدنا الأدلة الآثارية والتاريخية بأن نشاط بناء المراكب
في السودان ذو تاريخ طويل وأن كل من «آركل «1» ورايزنر «2»)
يفيدان بوجود المراكب خلال عصور ما قبل التاريخ بالاضافة إلى
العصور التاريخية، وقد أمدنا المؤرخ الإغريقي الكلاسيكي هيرو
دوتس بدليل إضافي وذلك في القرن الخامس قبل الميلاد أن نوع
المركب الذي وصفه هيرو دوتس في ذلك الوقت هو نفس المركب
الذي يتم بناؤه اليوم في السودان«3».

يفيدنا بعض الكتاب العرب في القرون الوسطى مثل بن سليم الأسواني
والذي عاش خلال القرن العاشر، حول المراكب في منطقة النوبة «4».

وهناك رحالة أوروبيون مثل جون لويس بير كهارت أفادونا حول المراكب
في السودان، خاصة في بربر وشندي وسنار والدامر «5». ويفيدنا
جيمس بروس ايضاً عن المراكب في منطقة الجديد على النيل الازرق
«6».

إن امثلة المصادر المقتبسة اعلاه تكشف عن ان المراكب وجدت في
السودان على طول نهر النيل في مختلف مراحل التاريخ وقبل المناطق
الاخرى في العالم فان نوع المراكب، أو النقل النهري في السودان
يتراوح من المراكب ذات الألواح العريضة إلى الاطواف الى القوارب
الصغيرة المحفورة من جزع الشجر. فيجب ان نوضح جيداً بصورة
جليلة بأن وجود ونشوء أنواع محددة من النقل النهري في وقت
محدد وفي مكان محدد محكوم بجغرافية المياه المحلية، والمناخ
والوظيفة ونوع المواد الخام المتوفرة وهو ايضا محكوم بتقاليد
الصنعة والسياق الاجتماعي والاقتصادي للسكان الذين يصنعون
المراكب ويستخدمونها.

توجد المراكب على طول النيل وقد تم تكيفها والظروف المحيطة بها
وليس هناك مجال لأي ادعاء بتأثيرات خارجية وقد اوضحت في مكان
آخر كيف دافع بعض المؤرخين بطريقة خاطئة كيف ان النقل النهري
في السودان تطور خلال الحكم التركي المصري وبداية الحكم الثنائي،
نتيجة للتأثيرات الواردة من مصر «7».

وما عدا العمل الذي أعده هورنل «Hornel» «8» فان مؤرخي الفترة
الحديثة ابدوا اهتماماً ضعيفاً بصناعة بناء المراكب في السودان ولكن
من بين أولئك الذين اهتموا بصورة أساسية بالتاريخ الإداري والسياسي
فقد قدم بعضهم سرداً قصيراً للمراكب وأنواعها فيها يتعلق بسعيهم
لمناقشة تطور النقل النهري وسيتم اقتباس مقتطفات من اعمالهم
ومناقشتها ادناه وفقاً للموضوع الرئيسي لهذه الورقة وعلى سبيل
المثال يذكر ريتشارد هل: «إننا نعرف القليل عن حالة النقل النهري
في النيل قبل الاحتلال المصري، باستثناء انه لا يمكن ان يكون مهماً
للغاية «9». وهو يعني الاحتلال المصري فترة الاحتلال المصري فترة
الحكم التركي المصري «1820-1883» عندما غزا محمد علي والي
مصر السودان لاستغلال موارده البشرية «تجارة الرق» و «الذهب»
ويضيف ريتشارد قائلاً بأن المصريين: «ادخلوا نوعاً من المراكب لم
تر من قبل في النهر السوداني: الدهبية، وهي مركب لنقل الركاب،
والفنجة وهي الأخت الصغرى للدهبية «10» وتفيدنا الادلة الاثنوغرافية
بان جميع الأنواع الثلاثة التي ذكرها ريتشارد لا توجد الآن في السودان
حالياً، كما ان المخبرين الذين اجرى معهم الكاتب الحالي مقابلات
شخصية لا يعرفون أي شئ عنها بل أن المركب الحالي في السودان
مختلف تماماً من الانواع المذكورة اعلاه.

إن الانواع المذكورة بواسطة ريتشارد هل تم ادخالها بواسطة المصريين
خلال الحكم التركي المصري لخدمة أهداف المستعمرين ولمساعدتهم
في ترحيل ونقل الرقيق والموارد الاخرى التي جاءوا من اجلها.
وقد تم إنشاء منجرات مراكب «محل بناء المراكب» لهذا الغرض حسب
ما يفيدنا به ريتشارد هل.

كتب خورشيد في تقريره الأول عن سنار بتاريخ 1826م عن بناء مراكب
في منجره على النيل الابيض بالقرب من ودشلعي. ونسبة لعدم
وجود خشب لتوفيره في مصر فقد نصح خورشيد بقطع الألواح من
الخشب المحلي ليجربها «11» ايضا يفيدنا ريتشارد هل حول إنشاء
ترسانات آخرى «منجرات» في النيل الازرق في الكاملين واخرى ثالثة
في مديرية بربر واخرى بين كرري والدويم في النيل الابيض ويخبرنا
ريتشارد هل ايضاً بأن الحكام المصريين اضطلعوا بمهام تعليم السكان
المحليين حرفة بناء المراكب ، واشار الى أن قبطان المنجرة حاول تسجيل
السكان الأهليين في النيل البيض كبحارة للمراكب لكنهم فروا هاربين
«12» وهذا يمكن ان يكون السبب في أنه لماذا جلب الحكام المصريون
الحرفيين من مالطة ومصر لبناء المراكب في ترسانات مختلفة تم إنشاؤها
على النيل وعلى ضوء معرفتنا بتاريخ بناء المراكب في السودان يمكن
للمرء أن يوضح لماذا هرب الأهليون عندما حاول حكامهم خلال فترة
الحكم التركي -المصري تعليمهم حرفة بناء المراكب وكما ذكرنا من
قبل ان السودانيين خلال فترات التاريخ المختلفة، عرفوا كيف يصنعون
انواعا مختلفة من المراكب للنقل النهري مكيفه لبيئتهم المحلية
وحاجاتهم الاجتماعية والاقتصادية ولذلك يمكن ايراد تفسيرين:

اولاً: يمكن ان يعزي ذلك لانهم فجأة اجبروا على صنع نوع من المراكب
غريب عن بيئتهم، واحتياجاتهم وتقاليدهم الحرفية وكانوا يعرفون كيفية
صنع الاشياء التي تخدم حاجاتهم المحلية ولم يكونوا معتادين على أداء
المهام الربحية، والعمل المأجور، والعمل تحت الضغط، ولذلك هربوا
رغما عن ان الحكام وعدوا باستخدامهم ومنحهم اجرا جيدا والتفسير
الاخر يمكن ان يكون هذا التصرف نوعاً من ابداء الاستياء والرفض
لخدمة اهداف حكم اجنبي غاشم، إن وحشية الحكام الاتراك والمصريين
في معاملتهم للشعب السوداني معروفة لاي احد يدرس أو يعرف تاريخ
تلك الفترة.

هذا يفسر لماذا سعى حكام السودان في ذلك الوقت للحصول على
مساعدة الحرفيين من جنسيات اخرى، كالمالطيين على سبيل المثال
، الذين امتدحهم ريتشارد هل: «إن هؤلاء الرعايا البريطانيين، الحرفيين
المدربين،لعبوا دوراً كبيرا وإن لم يكن معروفاً به في التطور الفني
للسودان خلال الحكم المصري وفي الفترات الاولى للحكم الثنائي
«13».

اذا كان ما ذكره هل صحيحاً لماذا اذاً اختفى هذا النوع المجلوب من
المراكب؟ ويتوقع المرء الاستمرارية في نوع واحد أو آخر، ولكنها في
الواقع اختفت مع العوامل التي املت جلبها ومع نهاية الحكم
التركي- المصري. وبقيت الانواع الوظيفية والمتكيفة مع البيئة
الاجتماعية والاقتصادية والطبيعية.

إن هذه الانواع القديمة التي كانت مستعملة باستمرار يمكن ان
نرجعها الى ايام هيرو دوتس أو حتى إلى وقت مبكر اكثر من ذلك.
وكانت أنواعاً تختلف بالنسبة لبناء هيكل المركب، وحبالها وأشرعتها،
حتى بعد عقدين من انتهاء الحكم التركي- المصري. فان نعوم شقير
الذي كتب تاريخه حول السودان في حوالي 1903م خلال الحكم
الثنائي الانجليزي المصري «1898-1956) لم يذكر الانواع التي ذكرها
ريتشارد هل بل انه اشار الى انواع مختلفة عن الانواع التي هي
مستعملة حالياً «النقور» على سبيل المثال، مركب البضاعة الكبير
و «المعدية» أو مركب العبور. والاهم انه يلاحظ ان المراكب السودانية
اكبر واكثر تحملاً وبقاءاً مقارنة مع المصرية بالاضافة الى ذلك وصف
شراع المركب السوداني بأنه مستطيل وليس مثل الشراع المصري
المثلث. وعندما سأل الأهالي عن ذلك.كان ردهم واضحاً لان الشراع
المستطيل مفيد اكثر في مساعدة المركب للعبور من خلال صخور
الجنادل والشلالات والمياه الضحلة وهي ظواهر طبيعية غير معروفة
لدى المصريين وعلاوة على ذلك اعترف بأن النوبيين مهرة في الملاحة
النهرية ولهم خبرة كبيرة في التعامل مع المركب عبر الجنادل «14».

في عام 1939م اعترف هورنل في مقالين ذكرناهما اعلاه، وشرح
ووصفبتفصيل أكثر الانواع التي اشار اليها شقير، ولكنه لم يشر إلى
الأنواع التي ذكرها ريتشارد هل، وواضح ان هذا مرده الى الحقيقة
البسيطة والمجردة بأنها لم تكن موجودة هناك. وهذا يفسر الاعتقاد
الراسخ للكاتب بأن نشوء حرفة نهرية معينة في مكان وزمان محددين
محكوم بالحاجات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية المحيطة بالناس
الذين يعيشون في ذلك الزمان والمكان. وفي بعض الاحيان تحدث
انقطاعة في السجل الثقافي تظهر أنها كانت من جراء تدفق مجموعة
مهاجرة أو غزاة.

إن عمليات التغير الثقافي والاجتماعي هي عمليات تدريجية وبطيئة
وهذا يفسر لنا لماذا في بعض الاحيان تختفي التغيرات المغروسة
عمداً مع اختفاء العوامل التي سببتها. هذا يفسر بأن انواع المراكب
التي تم إدخالها وجلبها خلال الحكم التركي -المصري والتي
اختفت بعد ذلك لوقت قصير ايضا فان مزيداً من الأمثلة والنقاش
حول الموضوع يتم لاحقاً في هذه الورقة ايضاً فان المؤرخين فيما
يبدو، صدقوا ما أورده «هل» وفسروه كدفعة نحو تطوير النقل
النهري خلال الحكم التركي -المصري.

لقد كتب المؤرخ السوداني حسن أحمد خلال السبعينات مستشهداً
«بريتشارد هل» ذاكراً انواعه الثلاثة بوصفها قد جلبت بواسطة
المصريين كخطوة للامام لتطوير الملاحة النهرية في السودان.
لكن لم تحدث اية محاولة اضافية لتعزيز صلاحية ودلالة الطرح هذا
من وجهة نظر التاريخ الثقافي ايضا فانه فيما يبدو يؤمن بأن الملاحة
النهرية بين مصر والسودان لم تكن ذات أهمية قبل الحكم ا لتركي-
المصري وهذا مرده حيث يشير الكاتب ويستشهد بوجود الشلالات
وحقيقة ان السودانيين لا يعلمون أي شئ عن بناء المراكب «15».

إن الادلة التاريخية والأثرية المشار اليها اعلاه، والتي تمت مناقشتها
بتفاصيل اكثر في مكان آخر، على الرغم من أنها مجزأة كما ذكرت،
كانت كافية لتصحيح ما يحاول مؤرخو الفترة الحديثة ان يقولوه لنا
لكن يجب عدم إلقاء اللوم عليهم لأنهم كانوا في الاساس مهتمين
بالتاريخ السياسي والاداري إن مهمة دراسة وتناول أدوات الثقافة
المادية هي مهمة فيما يتعلق بفهم التاريخ الثقافي للناس وهو ما
يسعى له الاثنوغرافيون المدربون أو مؤرخو الثقافة المادية حسب
ما يطلق عليهم في بعض الاحيان.

بعد تاريخ بناء المراكب واستعمالها في السودان، يمكن للمرء ان يلحظه
خلال فترات التاريخ المختلفة حيث وجدت هناك أشكال معقدة وبسيطة
مع بعضها البعض من النقل النهري، وكان كل منها يخدم وظيفة
اقتصادية وتم تكييفها بصورة جيدة للبيئة الطبيعية والحاجات
الإقتصادية والاجتماعية وهذا يعد مربكاً لدرجة معينة بمعنى انك لا
يمكن أن تحدد ما هو النوع الذي يسبق الآخر أو ما إذا كانت الاشكال
المعقدة قد تطورت من الاشكال البسيطة.

وربما تميل للإعتقاد بأن هذه الاشكال وجدت جنباً إلى جنب في جميع
الفترات التاريخية، وتم صنع كل منها وإستغلاله لغرضه المفضل الخاص
به. ولذلك، فإن مسألة ما إذا كان مركب الألواح الكبيرة قد تطور من
أشكال قوارب محفورة بسيطة وقوارب من الجلود أو أطواف لا أهمية
لها في مسعانا الحالي وهذا مرده إلى أن كل نوع كانت له وظيفته
المنفصلة ومن الممكن أن تكون كل هذه الأنواع قد تعايشت ووجدت
مع بعضها البعض في وقت واحد في أماكن محددة أو من الممكن
لهذه الأنواع أن توجد في أوقات مختلفة وفي أماكن مختلفة.

وفي السودان حالياً مثلما كان في الفترات الباكرة كما أوضحت فان
جميع اشكال النقل النهري هذه توجد مع بعضها البعض، وكل منها
يخدم وظيفة اقتصادية محددة

0 التعليقات:

إرسال تعليق

{ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}

حنين المهيرة © 2009. تعريب الـطالـب. Design by :Yanku Templates Sponsored by: Tutorial87 Commentcute